فصل: من فوائد الشعراوي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقَدْ يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ بِرَيْرَةَ وَهُوَ: «مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ، مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَقُ، وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ». رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا. وَيُجَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّرْطِ هُنَا حَاصِلُ الْمَصْدَرِ؛ أَعْنِي: الْمَشْرُوطَ لَا الْمَصْدَرَ الَّذِي هُوَ الِاشْتِرَاطُ، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَلَوْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، وَأَذِنَ بِاشْتِرَاطِ الْوَلَاءِ لِمُكَاتَبِي بِرَيْرَةَ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْإِنْكَارِ، كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا فِي بَيَانِ سَبَبِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَالْمُرَادُ بِمَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ: مَا خَالَفَهُ. كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ سَبَبِ الْحَدِيثِ، وَإِلَّا كَانَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ مُخَالِفِينَ لِهَذَا الْحَدِيثِ حَتَّى الظَّاهِرِيَّةَ؛ لِأَنَّهُمْ يُجِيزُونَ فِي الْعُقُودِ شُرُوطًا لَا ذِكْرَ لَهَا فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى شُرُوطٌ لِأَنْوَاعِ الْعُقُودِ فَيُكْتَفَى بِهَا وَيُقْتَصَرُ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ أَلَّا يَشْتَرِطَ أَحَدٌ شَرْطًا يُحِلُّ مَا حَرَّمَهُ كِتَابُ اللهِ أَوْ يُحَرِّمُ مَا أَحَلَّهُ، فَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ؛ إِذْ فِي كِتَابِ اللهِ مَا يُخَالِفُهُ، وَأَمَّا اشْتِرَاطُ مَا أَبَاحَهُ كِتَابُ اللهِ تَعَالَى بِالنَّصِّ أَوْ الِاقْتِضَاءِ فَهُوَ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَحْثٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ وَرَدَ فِي مَسْأَلَةٍ دِينِيَّةٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَهِيَ الْمُكَاتَبَةُ وَالْعِتْقُ وَالْوَلَاءُ، وَسَبَبُ الْحَدِيثِ بَيَّنَتْهُ رِوَايَةُ عَائِشَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، قَالَتْ: وَجَاءَتْنِي بِرَيْرَةُ فَقَالَتْ: كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ فَأَعِينِينِي، فَقُلْتُ: إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ وَيَكُونَ وَلَاؤُكِ لِي، فَعَلْتُ. فَذَهَبَتْ بِرَيْرَةُ إِلَى أَهْلِهَا فَقَالَتْ لَهُمْ، فَأَبَوْا عَلَيْهَا، فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِمْ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ عَرَضْتُ عَلَيْهِمْ، فَأَبَوْا إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْوَلَاءُ، فَأَخْبَرَتْ عَائِشَةُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: خُذِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ، فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ. فَفَعَلَتْ عَائِشَةُ، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّاسِ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ فَمَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ...» إِلَخْ.
فَالْوَاقِعَةُ فِي أَمْرٍ دِينِيٍّ اشْتُرِطَ فِيهِ شَرْطٌ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ اللهِ فَكَانَ لَغْوًا، وَالْأُمُورُ الدِّينِيَّةُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى النَّصِّ، وَأَمَّا الْأُمُورُ الدُّنْيَوِيَّةُ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالشَّرِكَاتِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْمُعَامَلَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ؛ فَالْأَصْلُ فِيهَا عُرْفُ النَّاسِ، وَتَرَاضِيهِمْ مَا لَمْ يُخَالِفْ حُكْمَ الشَّرْعِ فِي تَحْلِيلِ حَرَامٍ أَوْ تَحْرِيمِ حَلَالٍ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَمِنْ أَدِلَّةِ هَذَا الْأَصْلِ بَعْدَ الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا وَمَا أَيَّدْنَاهَا بِهِ، حَدِيثُ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَعَائِشَةَ، وَحَدِيثُ: مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَإِلَيَّ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. لِهَذَا تَجِدُ الْإِمَامَ أَحْمَدَ أَكْثَرَ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ تَصْحِيحًا لِلْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ، عَلَى أَنَّهُ أَوْسَعُهُمْ رِوَايَةً لِلْحَدِيثِ وَأَشَدُّهُمُ اسْتِمْسَاكًا بِهِ، فَأَبُو حَنِيفَةَ يُقَدِّمُ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ عَلَى حَدِيثِ الْآحَادِ الصَّحِيحِ، وَأَحْمَدُ يُقَدِّمُ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ عَلَى الْقِيَاسِ.
وَمِنَ الْعُقُودِ الَّتِي شَدَّدَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي إِبْطَالِ شُرُوطِهَا عَقْدُ النِّكَاحِ، فَتَرَى الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ الشُّرُوطَ فِي الْبَيْعِ- وَهُوَ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْمَوْكُولَةِ إِلَى الْعُرْفِ- لَا يُجَوِّزُونَ الشُّرُوطَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ. وَقَدْ جَوَّزَ أَحْمَدُ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْ تَشْتَرِطَ الْمَرْأَةُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ أَلَّا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا، وَأَلَّا تَنْتَقِلَ مِنْ بَلَدِهَا أَوْ مِنَ الدَّارِ، وَيُجِيزُ لَهَا فَسْخَ النِّكَاحِ إِذَا تَزَوَّجَ عَلَيْهَا وَقَدِ اشْتَرَطَتْ عَلَيْهِ عَدَمَ التَّزَوُّجِ عَلَيْهَا، كَمَا يُجَوِّزُ لَهَا الْفَسْخَ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعُيُوبِ وَالتَّدْلِيسِ، وَأَجَازَ اشْتِرَاطَ التَّسَرِّي فِي شِرَاءِ الْجَارِيَةِ، وَحِينَئِذٍ لَا تُجْبَرُ عَلَى الْخِدْمَةِ، وَاشْتِرَاطَ أَنْ يَأْخُذَ الْبَائِعُ الْجَارِيَةَ بِثَمَنِهَا إِذَا أَرَادَ الْمُشْتَرِي بَيْعَهَا، وَلَكِنْ قَالَ لَا يَقْرَبُهَا وَلَهُ فِيهَا شَرْطٌ، وَمَذْهَبُهُ هَذَا فِي الشُّرُوطِ هُوَ الْمُوَافِقُ لِسُهُولَةِ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، وَرَفْعِ الْحَرَجِ مِنْهَا. وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنَ الْعُلَمَاءِ وَفَّى مَوْضُوعَ الْعُقُودِ حَقَّهُ مُؤَيَّدًا بِدَلَائِلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ السَّلَفِ وَوُجُوهِ الِاعْتِبَارِ فِي مَدَارِكِ الْقِيَاسِ- إِلَّا شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى. فَلْيُرَاجِعْهُ مَنْ أَرَادَ التَّوَسُّعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ أَيْ أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ أَكْلَ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَالِانْتِفَاعَ بِهَا، قَالُوا: إِنَّ هَذَا مِنَ التَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعُقُودَ شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ الَّتِي شَرَعَهَا اللهُ تَعَالَى وَأَمَرَ الْمُكَلَّفِينَ بِالْإِيفَاءِ بِهَا، فَكَانَتْ كَالْعَقْدِ بِارْتِبَاطِهِمْ وَتَقَيُّدِهِمْ بِهَا، فَبَدَأَ بَعْدَ وَضْعِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ بِبَيَانِ مَا يَحِلُّ مِنَ الطَّعَامِ بِشَرْطِهِ الَّذِي يَتَضَمَّنُ مَا يَحْرُمُ مِنَ الصَّيْدِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ أَيْ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ إِلَخْ.
غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ أَيْ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ حَالَ كَوْنِكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللهُ عَلَيْكُمْ، بِأَلَّا تَجْعَلُوهُ حَلَالًا بِاصْطِيَادِهِ أَوِ الْأَكْلِ مِنْهُ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ أَيْ وَأَنْتُمْ مُحْرِمُونَ بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ أَوْ كِلَيْهِمَا، أَوْ دَاخِلُونَ فِي أَرْضِ الْحَرَمِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ {مُحِلِّي الصَّيْدِ} فَلَا يَحِلُّ الصَّيْدُ لِمَنْ كَانَ فِي أَرْضِ الْحَرَمِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا، وَلَا لِلْمُحْرِمِ، أَيِ الدَّاخِلِ فِي الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي خَارِجِ حُدُودِ الْحَرَمِ بِأَنْ نَوَى الدُّخُولَ فِي هَذَا النُّسُكِ، وَبَدَأَ بِأَعْمَالِهِ كَالتَّلْبِيَةِ وَلُبْسِ غَيْرِ الْمَخِيطِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ هَذَا الْقَيْدَ لِحَلِّ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ مُرَجِّحًا لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَا مَا كَانَ مُشَابِهًا لِلْأَنْعَامِ مِنَ الْبَهَائِمِ الْوَحْشِيَّةِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُصَادَ؛ كَالظِّبَاءِ وَبَقَرِ الْوَحْشِ وَحُمُرِهَا، وَأَمَّا حِلُّ الْأَنْعَامِ الْإِنْسِيَّةِ فَيُعْلَمُ مِنَ الْآيَةِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، وَمِنْ غَيْرِهَا مِنَ النُّصُوصِ، بَلْ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ جَارِيًا عَلَيْهِ الْعَمَلُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ.
إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ أَيْ يَمْنَعُ مَا أَرَادَ مَنْعَهُ، أَوْ يَجْعَلُهُ حُكْمًا وَقَضَاءً، وَالْحُكْمُ بِمَعْنَى الْمَنْعِ وَبِمَعْنَى الْقَضَاءِ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ، وَإِرَادَتُهُ إِنَّمَا تَكُونُ عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ الْمُحِيطِ وَحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ وَرَحْمَتِهِ الْوَاسِعَةِ، فَلَا عَبَثَ فِي أَحْكَامِهِ وَلَا جُزَافَ وَلَا خَلَلَ وَلَا ظُلْمَ. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ...} الآية.
البداية- إذن- عن ضرورة الوفاء بالعقود وتحليل تناول بهيمة الأنعام كطعام. وسورة المائدة- كما نعلم- جاءت في الترتيب المصحفي بعد سورة النساء التي تتضمن الكثير من العقود الإيمانية؛ فقد تضمنت سورة النساء عقود الإنكاح والصداق والوصية والدَّين والميراث، وكلها أحكام لعقود، فكأن الحق سبحانه وتعالى من بعد سورة النساء يقول لنا: لقد عرفتم ما في سورة النساء من عقود، فحافظوا عليها وأوفوا بها.
ونلحظ أن سورة البقرة جاءت بعدها سورة آل عمران، وفي كلتيهما حديث عن الماديين من اليهود، وسورة النساء والمائدة تواجه أيضًا المجتمع المدني بالمدينة بعد أن كان القرآن بمكة يواجه مسألة تربية وغرس العقيدة الإلهية الواحدة والنبوات. وقد خدمت سورة البقرة وسورة آل عمران مسألة العقيدة المنهجية والأنبياء، وسورة النساء تتضمن حسم العقيدة الحكمية.
وها نحن أولاء أمام سورة المائدة التي يقول فيها الحق: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود} والحق يخاطب المؤمنين بالاسم الموصول، ولم يقل: «يا أيها المؤمنون»، وهذا يدل على أن الإيمان ليس أمرًا عابرًا يمر بالإنسان فترة من الزمن؛ ولكن الإيمان يتجدد بتجدد الفعل حتى ينفذ المؤمن الأحكام التي جاء بها العقد الإيماني. وحين يتوجه الحق بخطابه للذين آمنوا، إنما يؤكد لنا أنه لا يقتحم على أحد حياته ليكلفه، وإن كان سبحانه كرب للعالمين قد خلق الخلق وأوجد الوجود وسخّره للخلق.
الله- سبحانه وتعالى- لم يستخدم هذا الحق ليأمر البشر بالإيمان، بل دعا الناس جميعًا أولًا إلى الإيمان، فمن آمن ينزل إليه التشريف بالتكليف ويكون القول الحق: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ} أي يا من آمنتم بالله إلهًا. والإله لابد له من صفات تناسب الألوهية، كطلاقة القدرة والجاه والحكمة والقهر. وسبحانه لا يكلف مَن لم يؤمن به، بل يدعو من لم يؤمن إلى الإيمان، ولذلك نجد أن كل آيات الأحكام تبدأ بالقول الحق: {يا أيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ}؛ لأن لكل إيمان تبعة.
{يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود} ونعرف أن اللغة بها أسرة ألفاظ؛ ف {أوفوا} على سبيل المثال فيها وفى. والمصارع هو يفي، وفي أفعالها أوفى ووَفَّى، حسب المراحل المختلفة قوة وضعفًا وكثرة وقلة، مثال ذلك قوله الحق: {وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى} [النجم: 37]
وقد قام سيدنا إبراهيم عليه السلام بالكثير من الإنجاز: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124]
ولابد أن يكون قوله الحق: {وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى} شرحًا لما قام به إبراهيم من مواجهة الابتلاء، فالتوفية هي الإتمام. والحق يقول: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود} أي عليكم يا من آمنتم بالله أن تتموا العقود.
والتمام إما أن ينطلق إلى الأفراد ويشملها فلا ينقص فرد، وإما أن يلتفت إلى الكيفيات فلا تختل كيفية، هذا هو التمام. وقد يأتي إنسان بكل فصول الكتاب ويقرأها، فيكون قد وفى قراءة كل الأجزاء، ولكن الحق يريد أن يتقن الإنسان تنفيذ كل جزئية في كتاب التكليف. وسبحانه طلب منا أن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وأن نقيم الصلاة وأن نؤتي الزكاة وأن نصوم رمضان وأن نحج البيت إن استطعنا إلى ذلك سبيلا، وقد يؤدي شخص كل هذه الأعمال وبذلك يكون قد قام بآداء التكليف، لكن هناك إنسان آخر يؤدي كل جزئية بتمامها فلا يختصر شيئًا منها بل إنّه يوفيها بلا تدليس.
والحق هنا يخاطب المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود} أي أننا أمام إيمان وعقد. وشرحنا معنى الإيمان، أما العقد فهو العلاقة الموثقة بين طرفين، وعلى كل طرف أن يلتزم بما عليه وأن يأخذ ما له. وسمي العقد عقدًا؛ لأن العقد هو الربط، أي شيء لا ينحل من بعد ذلك. ولذلك نسمي ما يستقر في مواجيد الناس ونفوسهم عقيدة. لأنها الأمر المعقود، وليس الأمر الطارئ الذي يأتي اليوم وينتهي غدًا. والشيء المعقود في نظر الفقه هو الأمر الذي لا يطفو إلى العقل ليُبحث من جديد، بل إنه مستقر وثابت في القلب. ويأمر سبحانه بالوفاء بالعقود. والعقود- كما نعلم- هي جمع لعقد وبالإسلام عقود كثيرة، تبدأ بالعقد الأول وهو عقد الذر: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172]
ويريد سبحانه الوفاء بهذا العهد الأول فلا يأتي الإنسان ساعة التطبيق ويفر منها، ثم نأتي إلى عهد الاستخلاف في الأرض وبه استخلف فيها آدم وذريته من بعده، وإياك أن تظن أنك الأصيل في الكون حين تدوم لك الأسباب وتدين لك بعض الوقت. لا تظن أن الأشياء قد دانت لك بمهارتك أنت فقط، وحين تبذر البذور في الأرض وتروي الأرض فاعلم أن الزرع ينبت بتسخير الله أَرْضَه لك.
وإياك من الظن لحظة تركب المهر أنك الخيال الفارس الذي روّض المهر، لا، إنه تسخير الحق للفرس. ونجد الفرس في بعض الأحايين يجمح ليقع الفارس من فوق ظهره، لعلنا ننتبه إلى الجزئية التي لا يصح أن تغيب عنا، فلو لم يذلل الله الخيل لنا لما استطعنا أن نركبها. {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: 71-72]
وعلى المؤمن أن يتذكر أيضًا أن الحق سبحانه ذلل الجمل لصاحبه، وجعل الطفل الصغير يأمر الجمل فيرقد على الأرض؛ ليضع عليه الأحمال الثقيلة، ويأمره فيقوم.
أما إن واجه الثعبان أو الحية فهو لا يجرؤ على تذليلهما، وهذا لفت من الحق للخلق لقدرته المطلقة؛ فقد ذلل لهم الكبير، وأفزعهم أضعاف ذلك من الثعبان ذي الجسم الصغير. {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: 72]
ومن التذليل يأتي رضوخ بقية الكائنات للإنسان؛ فالحمار عند الفلاح يحمل السماد للأرض من بقايا فضلات الإنسان والحيوان، ولا ينطق الحمار معترضًا، ويأتي الفلاح ليرتقي في حياته ويصير شيخًا للخفر، فيأمر أن يستحم الحمار، ويشتري له السرج ليركبه وهو ذاهب للقاء المأمور في المركز، ولم يعص الحمار في الحالتين. إنه التذليل.
إياك أن تظن أن مهارتك وحدها أيها الإنسان هي التي ذللت لك الكائنات، فلو اعتمد الأمر على المهارة وحدها، لذلل الإنسان البرغوث الصغير الذي يهاجمه في أي وقت، وقد يفزعك ذلك البرغوث الصغير طوال الليل. وقد تسهر أسرة بأكملها من أجل قتل برغوث واحد. {ضَعُفَ الطالب والمطلوب} [الحج: 73]